الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقوله تعالى: {إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا} من قبيل المرتبة الثانية لأن الكلام على حذف مضاف يناسب أجرًا إذ التقدير: إلا عمل من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلًا، وذلك هو اتباع دين الإسلام.ولما كان هذا إجابة لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الأجر على تلك الدعوة فكان نظير قوله: {قل لا أسألكم عليه أجرًا إلاّ المودة في القربى} [الشورى: 23].وقد يسمون مثل هذا الاستثناءِ الاستثناء المنقطع ويقدرونه كالاستدراك.والسبيل: الطريق.واتخاذ السبيل تقدم آنفًا في قوله: {يا ليتني اتخذتُ مع الرسول سبيلًا} [الفرقان: 27].وجعل السبيل هنا إلى الله لأنه وسيلة إلى إجابته فيما دعاهم إليه وهذا كقوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه مئابًا} [النبأ: 39].وذكر وصف الرب دون الاسم العلَم للإشارة إلى استحقاقه السير إليه لأن العبد محقوق بأن يرجع إلى ربه وإلاّ كان آبقًا.{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)}.عطف على جملة {قل ما أسألكم عليه من أجر} [الفرقان: 57] أي قل لهم ذلك وتوكل على الله في دعوتك إلى الدين فهو الذي يجازيك على ذلك ويجازيهم.والتوكل: الاعتماد وإسلام الأمور إلى المتوكل عليه وهو الوكيل، أي المتولّي مهمّات غيره، وقد تقدم في قوله تعالى: {فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله} في آل عمران (159).و{الحي الذي لا يموت} هو الله تعالى.وعدل عن اسم الجلالة إلى هذين الوصفين لما يؤذن به من تعليل الأمر بالتوكل عليه لأنه الدائم فيفيد ذلك معنى حصْر التوكل في الكون عليه، فالتعريف في {الحي} للكامل، أي الكامل حياته لأنها واجبة باقية مستمرة وحياة غيره معرضة للزوال بالموت ومعرضة لاختلال أثرها بالذهول كالنوم ونحوه فإنه من جنس الموت، فالتوكل على غيره معرض للاختلال وللانخرام.وفي ذكر الوصفين تعريض بالمشركين إذ ناطوا آمالهم بالأصنام وهي أموات غير أحياء.وفي الآية إشارة إلى أن المرء الكامل لا يثق إلا بالله لأن التوكل على الأحياء المعرضين للموت وإن كان قد يفيد أحيانًا لكنه لا يدوم.وأما أمره بالتسبيح فهو تنزيه الله عما لا يليق به وأول ذلك الشركة في الإلهية، أي إذا أهمّك أمر إعراض المشركين عن دعوة الإسلام فعليك نفسك فنزه الله.والباء في {بحمده} للمصاحبة، أي سبحه تسبيحًا مصاحبًا للثناء عليه بما هو أهله.فقد جمع له في هذا الأمر التخلية والتحلية مقدِّمًا التخلية لأن شأن الإصلاح أن يبدأ بإزالة النقص.وأمْر النبي صلى الله عليه وسلم يشمل الأمة ما لم يكن دليل على الخصوصية.وجملة {وكفى به بذنوب عباده خبيرًا} اعتراض في آخر الكلام، فيفيد معنى التذييل لما فيه من الدلالة على عموم علمه تعالى بذنوب الخلق، ومن ذلك أحوال المشركين الذين هم غرض الكلام.ففي {ذنوب عباده} عُمومان: عمومُ ذنوبهم كلّها لإفادة الجمع المضاف عمومَ إفراد المضاف، وعمومُ الناس لإضافة {عباد} إلى ضمير الجلالة، أي جميِع عباده، مع ما في صيغة {خبير} من شدة العلم وهو يستلزم العموم فكان كعموم ثالث.والكفاية: الإجزاء، وفي فعل {كفى} إفادة أنه لا يحتاج إلى غيره وهو مستعمل في الأمر بالاكتفاء بتفويض الأمر إليه.والباء لتأكيد إسناد الفعل إلى الفاعل.وقد كثر دخول باء التأكيد بعدَ فعل الكفاية على فاعله أو مفعوله، وتقدم في قوله تعالى: {كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا} في سورة الإسراء (14).و{خبيرًا} حال من ضمير {به} أي كفى به من حيث الخبرة.والعلمُ بالذنوب كناية عن لازمه وهو أنه يجازيهم على ذنوبهم، والشرك جامع الذنوب.وفي الكلام أيضًا تعريض بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يلاقيه من أذاهم.{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)}.أجريت هذه الصلة وصفًا ثانيًا ل {الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] لاقتضائها سعة العلم وسعة القدرة وعظيم المجد، فصاحبها حقيق بأن يُتوكل عليه ويفوض أمر الجزاء إليه.وهذا تخلّص إلى العود إلى الاستدلال على تصرف الله تعالى بالخلق.وتقدم الكلام على خلق السماوات والأرض في ستة أيّام في سورة البقرة، وعلى الاستواء في سورة الأعراف.و{الرحمان} خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمان.وهذا من حذف المسند إليه الغالب في الاستعمال عندما تتقدم أخبار أو أوصاف لصاحبها، ثم يُراد الإخبار عنه بما هو إفصاح عن وصف جامع لما مضى أو أهم في الغرض مما تقدمه، فإن وصف الرحمن أهم في الغرض المسوق له الكلام وهو الأمر بالتوكل عليه فإنه وصف يقتضي أنه يدبر أمور من توكل عليه بقوي الإسعاف.وفرع على وصفه ب {الرحمان} قوله: {فسئل به خبيرًا} للدلالة على أن في رحمته من العظمة والشمول ما لا تفي فيه العبارة فيعدل عن زيادة التوصيف إلى الحوالة على عليم بتصاريف رحمته مُجرب لها مُتلقّ أحاديثها ممن عَلِمها وجرّبها.وتنكير {خبيرًا} للدلالة على العُموم، فلا يظن خبيرًا معينًا، لأن النكرة إذا تعلق بها فعل الأمر اقتضت عمومًا بدليل أيّ خبير سألته أعلمك.وهذا يجري مجرى المثل ولعله من مبتكرات القرآن نظير قول العرب: على الخبير سقطتَ يقولها العارف بالشيء إذا سُئِل عنه.والمَثلان وإن تساويا في عدد الحروف المنطوق بها فالمثَل القرآني أفصحُ لسلامته من ثقل تلاقي القاف والطاء والتاء في سقطت.وهو أيضًا أشرف لسلامته من معنى السقوط، وهو أبلغ معنى لما فيه من عموم كل خبير، بخلاف قولهم: على الخبير سقطتَ، لأنها إنما يقولها الواحد المعيَّن.وقريب من معنى {فسئل به خبيرًا} قول النابغة:
إلى قوله: والباء في {به} بمعنى عن أي فاسأل عنه كقول علقمة: ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب {خبيرًا} وتقديم المجرور للرعي على الفاصلة وللاهتمام، فله سببان.{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)}.لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كُفر المشركين بهذا الوصف.وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم الرحمان هو من وضع القرآن ولم يكن معهودًا للعرب، وأما قول شاعر اليمامة في مدح مُسيلمة: فذلك بعد ظهور الإسلام في مدة الردة، ولذلك لما سمعوه من القرآن أنكروه قصدًا بالتورّك على النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك عن جهل بمدلول هذا الوصف ولا بكونه جاريًا على مقاييس لغتهم ولا أنه إذا وصف الله به فهو رب واحد وأن التعدد في الأسماء؛ فكانوا يقولون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو الله ويدعو الرحمن.وفي ذلك نزل قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أيًّا مَّا تدعوا فله الأسماء الحسنى} وقد تقدم في آخر سورة الإسراء (110) وهذه الآية تشير إلى آية سورة الإسراء.والخبر هنا مستعمل كناية في التعجيب من عِنادهم وبهتانهم، وليس المقصود إفادة الإخبار عنهم بذلك لأنه أمر معلوم من شأنهم.والسجود الذي أمروا به سجود الاعتراف له بالوحدانية وهو شعار الإسلام، ولم يكن السجود من عبادتهم وإنما كانوا يطوفون بالأصنام، وأما سجود الصلاة التي هي من قواعد الإسلام فليس مرادًا هنا إذ لم يكونوا ممن يؤمر بالصلاة ولا فائدة في تكليفهم بها قبل أن يُسلِموا.ويدل لذلك حديث معاذ بن جبل حين أرسله النبيءُ صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم قال: فإن هم أطاعوا لِذلك فأعلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في اليوم والليلة. إلخ.ومسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة لا طائل تحتها.وواو العطف في قولهم {وما الرحمن} لعطفهم الكلام الذي صدر منهم على الكلام الذي وُجه إليهم في أمرهم بالسجود للرحمان، على طريقة دخول العطف بين كلامي متكلمين كما في قوله تعالى: {قال إني جاعلُك للناس إمامًا قال ومِن ذرّيّتي} [البقرة: 124].و{ما} من قوله: {وما الرحمن} استفهامية.والاستفهام مستعمل في الاستغراب، يعنون تجاهل هذا الاسم، ولذلك استفهموا عنه بما دون مَن باعتبار السؤال عن معنى هذا الاسم.والاستفهام في {أنسجد لما تأمرنا} إنكار وامتناع، أي لا نسجد لشيء تأمرنا بالسجود له على أن {ما} نكرة موصوفة، أو لا نسجد للذي تأمرنا بالسجود له إن كانت {ما} موصولة، وحُذف العائد من الصفة أو الصلة مع ما اتصل هو به لدلالة ما سبق عليه، ومقصدهم من ذلك إباء السجود لله لأن السجود الذي أمروا به سجود لله بنيّة انفراد الله به دون غيره، وهم لا يجيبون إلى ذلك كما قال الله تعالى: {وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون} [القلم: 43]، أي فيأبَون، وقال: {وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون} [المرسلات: 48].ويدل على ذلك قوله: {وزادهم نفورًا} فالنفور من السجود سابق قبل سماع اسم الرحمن.وقرأ الجمهور {تأمرنا} بتاء الخطاب.وقرأه حمزة والكسائي بياء الغيبة على أن قولهم ذلك يقولونه بينهم ولا يشافِهون به النبي صلى الله عليه وسلم.والضمير المستتر في عائد إلى القول المأخوذ من {وإذا قيل لهم}.والنفور: الفرار من الشيء.وأطلق هنا على لازمه وهو البعد.وإسناد زيادة لنفور إلى القول لأنه سبب تلك الزيادة فهم كانوا أصحاب نفور من سجود لله فلما أمروا بالسجود للرحمان زادوا بُعدًا من الإيمان، وهذا كقوله في سورة نوح (6) {فلم يَزدْهم دُعائي إلا فرارًا}.وهذا موضع سجدة من سجود القرآن بالاتفاق.ووجه السجود هنا إظهار مخالفة المشركين إذ أبوا السجود للرحمان، فلما حكي إباؤهم من السجود للرحمان في معرض التعجيب من شأنهم عُزز ذلك بالعمل بخلافهم فسجد النبي هنا مخالفًا لهم مخالفة بالفعل مبالغة في مخالفته لهم بعد أن أبطل كفرهم بقوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} [الفرقان: 58] الآيات الثلاث.وسنّ الرسول عليه السلام السجود في هذا المَوضع. اهـ.
|